الاربعاء 24 سبتمبر 2025 - الساعة:20:33:28
في كل وطنٍ يبتلى بآفة الفساد، تُسرق الأحلام قبل أن تُسرق الأموال، ويُقصى المخلصون قبل أن يُقصى العابثون. الفاسد بطبيعته لا يقبل وجود من يعلو صوته بالحق، ولا من يمتلك رؤية صادقة أو هدفاً سامياً، لأنه يعلم أن بقاءه مرهونٌ بإخماد كل صوت حرّ، وطمس كل فكرة إصلاحية، والتضييق على كل وطنيّ يرفض الخضوع لسلطته الملوّثة.
سطوة الفاسدين لا تظهر في نهب الثروات فحسب، بل تتجلى في قدرتهم على إعادة تشكيل المجتمع وفق مقاييسهم الخاصة. إنهم يرفعون من شأن التابع الأعمى، ويُهمّشون الكفء الصادق، ويُقصون صاحب الرأي المستنير. فالمعيار لديهم ليس خدمة الوطن أو الإخلاص للقيم، بل مقدار ما يقدمه الفرد من ولاءٍ شخصي أو تملقٍ رخيص. وهكذا تتحول مؤسسات الدولة إلى منصات لتكريس الرداءة، ويغدو الفساد نظاماً قائماً بذاته، يتغذى على الضعف والخوف والصمت.
الأخطر من ذلك أن الفاسدين لا يكتفون بحماية أنفسهم من المساءلة، بل يسعون إلى تدمير كل فكرة يمكن أن تهدد وجودهم. إنهم يحاربون المثقفين والإعلاميين الشرفاء، ويضيّقون على الأكاديميين وأصحاب الفكر، ويُقصون النخب الوطنية من مواقع القرار. والنتيجة أن الوطن يفقد عقله الجمعي، وتُغتال طاقاته البشرية في صمتٍ مروّع، ليبقى رهينةً بيد حفنةٍ من المنتفعين.
ومن يراقب مسار الدول يدرك أن الفساد لا ينهش مؤسساتها وحسب، بل يسرق روحها أيضاً. فحين يُكافأ المنافق ويُقصى المخلص، يترسخ اليأس في نفوس الشباب، وتضعف ثقة المواطن بوطنه، وتتآكل روح الانتماء شيئاً فشيئاً. الفساد ليس جريمة مالية فقط، بل جريمة وجودية تمس معنى الوطن ذاته، لأنه يُعطّل مسيرة التنمية، ويقتل الأمل في الغد، ويحوّل الأوطان إلى ساحات نزاعٍ على الغنائم لا إلى ميادين عطاء.
ولا يواجه الفاسدون خصومهم بالحجة، بل بالقمع والتشويه والتهميش. فصاحب الرأي الحر يوصم بالعداء، والوطني المخلص يُتهم بالتمرد، وصاحب الفكرة الإصلاحية يُقدّم على أنه عائق أمام "الاستقرار". وهكذا يتم قلب الحقائق، حتى يبدو المصلح متهماً، ويظهر الفاسد في ثوب الحامي والمدافع عن النظام.
لكن التاريخ يعلّمنا أن سطوة الفساد مهما تعاظمت، فهي مؤقتة. فالأوطان لا تبنى إلا على العدل، ولا تنهض إلا على أكتاف المخلصين. وكل نظام يُقصي الكفاءات ويقتل الرأي الحر، يكتب بيده شهادة فنائه، ولو بعد حين. إن قوة الشعوب في وعيها، وحصنها المنيع هو إرادتها الجمعية التي ترفض الاستسلام للباطل، وتصرّ على إعادة الاعتبار للقيم النبيلة.
إن مواجهة الفساد لا تكون بالشعارات وحدها، بل بترسيخ منظومة عدالة حقيقية، تُحاسب من يعبث بمصير الأوطان، وتعيد الاعتبار لأصحاب الكفاءة والمعرفة. فالأوطان التي تريد النجاة لا بد أن تضع المخلصين في موقع القيادة، وتمنح الفرصة للعقول الحرة، وتفتح الأبواب أمام طاقات الشباب، بعيداً عن سطوة المصالح الضيقة.
إن الفاسدين قد يفرضون سطوتهم زمناً،
لكنهم لن يستطيعوا أن يلغوا الحقيقة إلى الأبد. سيبقى صوت الضمير حاضراً، وسيظل الوطن بحاجة إلى أولئك الذين يحملون في قلوبهم إيماناً عميقاً بأن حب الوطن أسمى من كل سلطة، وأن خدمة الناس أرفع من كل مكسبٍ شخصي. وما بين سطوة الفاسدين وصمود الأحرار، يبقى الرهان على وعي الشعوب وإرادتها في صنع غدٍ يليق بتضحياتها.
ثروت جيزاني
